.:: الذكرى الستون للنكبة ::.

===================================

تاريخ الخطبة / 2008-05-09
الخطبة الأولى :
 الحمد لله جعل الأيام دولاً بعدله، ووعد المؤمنين بنصره وفضله، وتوعد الكافرين والظالمين بقهره، فقال تعالى:{...وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} (آل عمران: 140).
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جعل العاقبة للمتقين وأيدهم بنصره المبين ، فقال تعالى:{كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} (المجادلة:21)، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وشفيعنا وقدوتنا محمداً عبد الله ورسوله وصفيه من خلقه وخليليه،أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة، وتركنا على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.
فصلاة الله وسلامه على النبي المصطفى والرسول المجتبى، وعلى آله الطاهرين المستكملين الشرفا، ورضي الله عن أصحابه أجمعين، ومن اقتدى واهتدى بهم واستن سنتهم إلى يوم الدين.
عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله العظيم وطاعته وأحذركم وإياي من عصيانه ومخالفة أمره لقوله تعالى:{مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ } (فصلت:46).
 أيها المسلمون: أيها المرابطون في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس:
ستون عاماً مضت على نكبة فلسطين، يحيي ذكراها المؤلمة أبناء فلسطين في داخل الوطن وخارجه، في مدنهم وقراهم ومخيماتهم وأريافهم، وحيثما حلوا في أنحاء المعمورة، ليؤكدوا على حقهم في هذه الأرض، وعلى رأس هذه الحقوق ؛ حق العودة إليها، وهو حق شرعي وطبيعي وإنساني وقانوني لا يسقط بالتقادم، كما أنه من الحقوق الثابتة غير القابلة للتصرف.
وفي مقابل إحياء هذه الذكرى من قبل أصحاب الحق الشرعيين، يحتفل المحتلون باحتلالهم لهذه الأرض تحت شعار الاستقلال إمعاناً منهم في التنكر لحقوق شعبنا الفلسطيني في العودة والحرية وتقرير المصير.
وفي محاولات مكشوفة لتكريس الأمر الواقع المفروض بالقوة وتزوير الحقائق - وأني لهم ذلك – وأحفاد اللاجئين والمهجرين من ديارهم ما زالوا يحتفظون بمفاتيح بيوتهم وشهادات تسجيل أملاكهم وعقاراتهم. ويملأ صدورهم الإيمان بأن يوم العودة قادم لا محالة، وأن فجر الحرية سيبدد حلكة الظلم والظلام ولو بعد حين، { وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ* بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}( الروم:4-5).
    أيها المسلمون يا إخوة الإيمان في كل مكان:
لا يخفى على كل مطلع أو معاصر للنكبة ما تبعها من تداعيات خطيرة ، لعل أخطرها احتلال باقي الأرض الفلسطينية وسقوط القدس بما تمثله من عقيدة ومقدسات وحضارة وتاريخ وتراث، وما يحكيه مسجدها الأقصى المبارك عن طهر المكان، وعزة الزمان ،وإقدام الإنسان، يوم جاء الصحابة الكرام بقيادة الفاروق عمر – رضي الله عنهم -  فاتحين للقدس ومطهرين لمسجدها المبارك، ومنفذين لأمر الله الذي قضى بإسلامية هذه الديار، وجعلها أمانة في أعناق المسلمين جميعاً وأن الله سائل كلاً منهم أحفظ أم ضيع؟ والفطن من أعد الجواب ليوم السؤال، ونجح في امتحان الملك الديان الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} (غافر:19) {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ}( آل عمران:30).
أيها المسلمون يا إخوة الإيمان في كل مكان:
من تداعيات الاحتلال للأرض الفلسطينية هذه الهجمة الشرسة التي استهدفت وتستهدف الأرض والإنسان، الأرض بتغيير طابعها العربي والإسلامي، وطمس معالمها بهدم القرى، وإقامة المستوطنات الزراعية مكانها وتشريد أهل المدن منها وإحلال المستقدمين من المستوطنين مكانهم،والتضييق على من بقي من الفلسطينيين منغرساً في أرضه.
وهذه السياسة نفسها طبقت على باقي الأرض الفلسطينية التي احتلت عام ألف وتسعماية وسبعة وستين، فأقيمت المستوطنات وصودرت الأرض تحت حجج وذرائع واهية لا يحار الاحتلال في ابتداعها والتسويق لها ظناً منه باستسلام شعبنا وقبوله لهذه الإجراءات والممارسات تحت طائلة غطرسة الاحتلال وبطشه.
     أيها المسلمون يا أبناء ديار الإسراء والمعراج:
إن جدار الفصل العنصري هو من أخطر تداعيات النكبة على الأرض الفلسطينية، فقد عزل هذا الجدار مدينة القدس بوجه خاص عن محيطها الفلسطيني ومنع تواصل أبناء شعبنا مع المدينة المقدسة مما عطل جميع الأنشطة الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، فضلاً عن حرمان أبناء شعبنا من حقه في الوصول إلى المسجد الأقصى لأداء عباداته.
في الوقت الذي يفرض الاحتلال الطوق الشامل على أبناء شعبنا في الضفة وغزة لسبب ولغير سبب علاوة على المزيد من الحواجز العسكرية التي تقطع أوصال الوطن،وتعزل كل مدينة عن أخواتها بل وتعزل القرى المحيطة بالمدينة عن التواصل مع المدينة الأم.
إن شعبنا الصابر لن تزيده هذه الممارسات إلا عزماً وإصرارً وتصميماً على التمسك بحقه وبخاصة حق العودة، ولن تثنيه كل هذه الإجراءات عن مواصلة طريقه نحو العودة والتشبث بكافة حقوقه فوق ثرى هذا الوطن الطهور الذي أكرم الله شعبنا بالرباط فيه وشرفنا بسدانة مسجده الأقصى المبارك، وبشرنا رسول الله r بالظهور على الحق إلى أن يأتي أمر الله ونحن كذلك.
فقد جاء في الحديث الشريف عن أبي أمامة t أن رسول الله r قال:" ‏لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لعدوهم قاهرين لا يضرهم من خالفهم إلا ما أصابهم من لأواء حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك قالوا يا رسول الله وأين هم قال ‏ ‏ببيت المقدس ‏ ‏وأكناف ‏ ‏بيت المقدس"(رواه أحمد).
أو كما قال
فيا فوج المستغفرين استغفروا الله
وادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.
 الخطبة الثانية :
 الحمد لله الهادي إلى الصراط المستقيم والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله أحب لعباده أن يعملوا لدينهم ودنياهم حتى يفوزوا بنعم الله وينالوا رضوانه، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين:
     وبعد أيها المسلمون:
وتأتي الذكرى الستون للنكبة وحال أمة القضية وأبنائها لا يسر صديقاً ولا يغيظ عدواً، لقد كانت قضية فلسطين في بدايات النكبة هي قضية العرب والمسلمين، وهي في أولويات اهتمامهم، وتكاد تكون قضيتهم المركزية.
أما اليوم فقد كثرت قضايا الأمة وتداعت عليها الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها.فهنا قضية فلسطين واحتلال الأرض، وهناك في العراق احتلال وحرب داخلية، وفي الصومال حرب يغذيها الغزاة، ويوقد نارها أبناء الوطن.
وهناك انقسام وتمرد في السودان، ولبنان يقف على حافة حرب أهلية - نسأل الله تعالى أن يقي شعب لبنان وسائر الشعوب الإسلامية الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأفغانستان تحتلها جيوش حلف الناتو وأوضاع دول العروبة والإسلام تشهد تراجعاً كبيراً على جميع المستويات السياسية والاقتصادية والحضارية والعسكرية، لدرجة غياب الموقف الواحد والموحد لدى المحافل الدولية، فأية حقوق يرجى تحصيلها في ظل هذه الأحوال، فلا حول ولا قوة إلا بالله العظيم و{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ} ( البقرة:156).
 إننا لا نقول هذا تيئيساً لأبناء الأمة وإنما نقوله تشخيصاً للواقع وبياناً للحال لعل أبناء الأمة وحكامها يثوبون إلى رشدهم ويتلمسون طريق خلاصهم من خلال عقيدتهم ودينهم الذي جمع شتات أسلافهم وجعلهم خير أمة أخرجت للناس ونصرهم بعد الضعف، وأبدلهم من بعد خوفهم أمناً وحقق على أيديهم صون ديار الأمة وعزتها والقيام بأداء رسالتها الخالدة على الزمان والمكان.
     أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان:
جدير بالمسلمين اليوم وهم يعيشون حالة الفرقة والضعف وانحسار سلطانهم رغم كثرتهم التي تزيد عن المليار مسلم أن يراجعوا هدي رسولهم u وسلفهم الصالح ليتحسسوا طريق النهوض من هذا الواقع المؤلم فيحفظوا ديارهم وشعوبهم ويأخذوا مكانهم بين الأمم.
فبادري يا خير أمة أخرجت للناس، ويا أمة الهادي عليه الصلاة والسلام إلى تصحيح المسار وفق أحكام هذا الدين وتأسياً بهدي رسولنا الأمين الذي بشر الأمة بالنصر والتمكين وبسط سلطانها في مشارق الأرض ومغاربها فيما رواه ثوبان مولى رسول الله r قال: قال رسول الله r:"‏إن الله ‏ ‏زوى ‏ ‏لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وإن أمتي سيبلغ ملكها ما ‏ ‏ زوي ‏ ‏ لي منها  ...." (أخرجه مسلم).
وقد تحققت هذه النبوءة الكريمة على أيدي أسلافكم، فوصل ملك أمتكم إلى حدود الصين شرقاً وإلى مياه المحيط الأطلسي غرباً، وخاطب خليفة المسلمين السحابة قائلاً:"أمطري حيث شئت، فخراجك عائد إلينا".
وما زالت بشارات النبي r تطرق سمع من كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ بأنها ستكون خلافة راشدة على منهاج النبوة، ويفيض المال حتى لا يجد الرجل من يأخذ صدقته.
إنها بشارات النبي u يحققها الله تعالى بتأييده وعونه للمؤمنين العاملين وفق منهاج الله وهدي رسوله وما ذلك على الله بعزيز، فهو القائل:{ إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ}(غافر: 51).
فاجعلوا يا أبناء ديار الإسراء والمعراج من ذكرى النكبة حافزاً لكم على توحيد صفكم وجمع كلمتكم وإنهاء خلافاتكم لتكونوا جديرين بحمل أمانة هذه القضية المقدسة العادلة التي قدم شعبنا وأبناء الأمة الكثير من التضحيات لإبقائها حية في نفوس أبناء الأمة بأسرها.
وما هذه الفعاليات والمسيرات التي تقام داخل الوطن وخارجه إلا تأكيد على كل الحقوق الفلسطينية والعربية والإسلامية في هذه الديار التي شرفكم الله بالرباط فيها وجعلكم طليعة الأمة المتقدمة في رعاية مقدساتها، إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً.
{وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحج:40)
 دار الإفتاء الفلسطينية - القدس